
مفهوم الوساطة تجلى لدى الكثيرين بأنها ظاهرة من الظواهر السلبية واسعة الانتشار في كل المجتمعات، وانحصر هذا المفهوم في احتكار من يقدمون ويحققون المصالح العامة للمساعدة وتقديم الخدمات والدعم لفئة معينة من الناس تتوفر بينهم مصالح مشتركة أو تربطهم علاقات اجتماعية قوية، وينتج عن هذه الظاهرة انتشار الفوضى، وعدم تكافؤ الفرص، وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعة في المجتمع، والبطالة، وغيرها من الإشكاليات المجتمعية.
ولكن مؤخراً ظهرت الوساطة بشكل حديث وبمفهوم متجدد، تغيرت فيه كل المعطيات والنتائج، وأصبح للوساطة وجه آخر معاكس للمفهوم القديم، حيث أن الوساطة باتت تلعب دوراً كبيراً في تحريك سياسات الدول، وتحقيق المصالح القومية والاقليمية، وفض النزاعات، وبناء العلاقات الاقتصادية القوية. قد يتساءل أحدهم بأن كل ما ذكر لم يكن وليد هذا العصر، فقد كانت الأمم منذ قديم الزمان تمارس حياتها من خلال العلاقات والتواصل الاجتماعي المبنى على الوساطة، ولا يمكن أن أنفى ذلك، ولكننا اليوم نرى شركات عملاقة، وظيفتها تحقيق هذا المفهوم العصري الحديث، وكثير من دول العالم تنفق الملايين والمليارات من الأموال للحصول على خدمات هذه الشركات التي هي في الحقيقة لا تمتلك مورداً طبيعياً أو إنتاجاً لسلع ثمينة، بل أنها تعتمد على العلاقات لتقلب موازين كل شيء.
باتت العلاقات العامة اليوم من أهم الدعائم التي تحقق الترابط الشفاف بين كبرى الشركات والمؤسسات وحتى الدول، وأصف هذا الترابط بالشفاف لأنه مبني بشكل مباشر على المصالح المشتركة، بعيداً عن الشعارات والتزييف، فعندما تكون العلاقات واضحة وصريحة من خلال شركات تديرها، فلا أحد يمكنه أن ينكر حتمية أن المصالح التي تتحقق بالأموال هي مصالح مادية، لا علاقة لها بالعمق التاريخي أو القيم الإنسانية، وهذا يضمن صدق ووضوح العلاقة، فالشعارات والاستعطافات اليوم باتت تستغل بشكل أو بآخر لتحقيق المصالح، وهذه هي مظاهر الغش والخداع التي يجب أن تنتهي.
حين ذَهبتُ إلى محرك البحث خاصي للتعرف على مفهوم العلاقات العامة، وجدت أن الموسوعة الالكترونية ويكيبيديا تعرفها على أنها "توجيه الرأي العام نحو منتجك من خلال مشاريع إلكترونية أو غير إلكترونية، أو عرض منتج ما لجمهور معيّن وخلق هالة إيجابية حوله، ويمكن أن نعرّف العلاقات العامة بأنها الجهاز الذي يربط المؤسسة بجمهورها الداخلي والخارجي.[1][2][3] وقد ازدادت فاعلية هذا الجهاز كنتيجة للتقدم التكنولوجي وظهور وسائل الإعلام الرقابية والإجتماعية والتغيير المستمر للعالم، وقد زاد الطلب عليه وتعظمت حاجة الجمهور له، على الرغم من عدم وجود ما يكفي من شركات العلاقات العامة التي تلبّي حاجة الجمهور، حيث تقوم العلاقات العامة بنقل صورة للأنشطة والخدمات التي تقدمها الشركة أو المؤسسة للجمهور وتلبي حاجة الجمهور للحصول على تلك المعلومات".
والغريب هنا أن هذا التعريف حصر مفهوم العلاقات العامة في زاوية الترويج والدعاية وتوجيه الرأي العام لاتجاه معين، بينما لم يترجم إمكانية تحقيق ذلك، وأسباب النفوذ التي تمكن شركات العلاقات العامة من توجيه وتعبئة المجتمع، وهو فعلياً ناتج عن المنظومة التي تبنيها تلك الشركات نتيجة الوساطة في تحقيق المصالح بين الشركات والمؤسسات والأشخاص ذوي النفوذ، ما يجعلهم جميعا يخضعون للشروط التي تضعها هذه الشركات وتسبح وفق تيارها.
في حالات كثيرة من النزاعات والحروب تدخلت العلاقات العامة وساهمت في فض النزاع وتقريب وجهات النظر ولعبت الوساطة دورها في ترك السلاح والجلوس على طاولة الحوار، وجاء ذلك نتيجة لمصالح مشتركة بين أطراف مؤثرة على الأطراف المتصارعة، ولا يمكن لذلك أن يتحقق بشكل واضح وشفاف إلا عن طريق شركات تحقق الوساطة المنشودة وتعي جيداً حجم الاستفادة التي يمكن أن يتحقق لكل الأطراف بعد إبعاد الأقنعة عن المشهد.
وفي الخلاصة، فإن العلاقات العامة تعد أساس لتحقيق المصالح، ولا يمكن لمؤسسة أو شركة أن تستثني العلاقات العامة من أولوياتها، وقد يقوم بإدارتها أشخاص يعملون فيها ويجيدون ممارستها كوظيفة تجسد المفهوم العام، ولكننا لا يمكن أن نستصغر دورها في مضاعفة الاستفادة وإضافة القوة وتمكين الوجود.